963112270001

قلعة حلب

تتحلق مدينة حلب حول رابية تعلوها قلعة مرتفعة تشرف على المدينة من جميع جهاتها، وهذه القلعة العربية الإسلامية هي من أشهر قلاع العالم، فقد كانت حصناً تعاقب على أشغاله الحثيون والآراميون والسلوقيون والرومان والبيزنطيون. ومما لا شك فيه أنها أقيمت على أنقاض قلاع متتابعة قديمة، فلقد كانت الرابية المرتفع الأكثر أمناً لإقامة المقر الحكومي المحصّن لمدينة حلب عبر تاريخها الطويل جداً.

*****
يعود تاريخ بناء أهم أقسام القلعة إلى عصر الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي وكان قد ولاه عليها سنة 1190م، حيث حصّن مدخلها وبنى على سفحها جداراً، وحفر حولها الخندق، وشيد في داخلها مسجداً وعدداً من القصور. وكانت زوجه ضيفة خاتون، التي صارت ملكة حلب، تعيش في أحد قصور القلعة، وفيها دفنت أولاً.

تعلو القلعة ما يقرب من أربعين متراً عن مستوى مدينة حلب، ومازالت أسوارها وأبراجها قائمة، يعود بعضها إلى عصر نور الدين زنكي، ويحيط القلعة خندق بعمق ثلاثين متراً. ندخل إلى القلعة من بوابة ضخمة من خلال برج دفاعي مستطيل الشكل، ينتهي بالمدخل الكبير للقلعة، ويتكون من دهليز ينتهي بباب ضخم من الحديد المطرّق، تعلوه فتحات للمرامي والمحارق، ويعود إلى عصر خليل بن قلاوون الذي جدده ورممه. وتعلو الباب قنطرة حجرية عليها نحت ممتد على طولها يمثل ثعبانين برأس تنين.

*****

وبعد اجتياز هذا المدخل نصل إلى دهليز آخر في جدرانه الثلاثة أواوين ضخمة، وفي إيوانه الشمالي باب يتصل بدرج يؤدي إلى قاعة الدفاع، وللقلعة باب رابع خشبي يعلوه ساكف عليه نحت أسدين متقابلين. وبعد اجتياز الباب نمر بمصاطب مرتفعة تتخللها غرف ومستودعات، ثم نصل إلى ممر القلعة الداخلي حيث تتخلله مجموعة من المباني والحوانيت، وثمة درج يؤدي إلى القصر الملكي. وإذا ما تابعنا المسير فإننا سنصل إلى مسجد إبراهيم الخليل الذي أنشأه الملك الصالح إسماعيل بن محمود بن زنكي سنة 536هـ/1179م. وعلى مدخل المسجد، وعلى جدرانه كتابات تاريخية. ويلي هذا المسجد بناء آخر هو مسجد ذو مئذنة مربعة عالية أنشئت في عصر الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي. وليس بعيداً عن هذا المسجد الذي رمم مؤخراً، تقوم ثكنة عسكرية أنشئت في عصر إبراهيم باشا المصري سنة 1252هـ/1834م. وفي وسط هذه الرابية قاعة كبيرة، نصل إليها من خلال سبعين درجة تحت السطح، كانت تستعمل مستودعاً للحبوب والعلف.

****

ومن القصور التي مازالت قائمة، قصر يوسف الثاني حفيد غازي، مدخله مزين بمقرنصات جميلة، وأمامه ساحة مرصوفة بأحجار صغيرة ملونة ذات رسم هندسي بديع. ونتجه من القصر إلى قاعة العرش، فندخلها من بوابة ذات أحجار ملونة، تعلوها مقرنصات تحتها كتابة تاريخية. وقد شيدت القاعة في العصر الأيوبي على برجين حول المدخل الخارجي، ثم أكملت ورممت في العصر المملوكي، ثم أضيف إليها في عام 1960 زخارف أثرية خشبية وحجرية. ومن أجمل نوافذ هذه القاعة، نافذة كبيرة ذات شباك مزخرف بصيغ عربية، ومن خلاله تُرى مدينة حلب مترامية الأطراف عند مدخل القلعة، كما زخرفت واجهات القاعة الخارجية، بزخارف هندسية حجرية وبأشرطة من الكتابات العربية من أبلغها "قل كلٌّ على شاكلته".
وتحت قاعة العرش هذه قاعة الدفاع التي تخترق جدرانها كُوى لرمي السهام، وفتحات لسكب السوائل المحرقة على المداهمين والمُحاصرين. تعرضت قلعة حلب لغزو المغول بقيادة هولاكو سنة 658هـ/1260م، ولقد هَدَم كثيراً من معالمها بعد أن وعد بحمايتها إذا ما استسلمت، وتحررت القلعة بعد انتصار العرب على المغول في موقعة عين جالوت، وقام الملك الأشرف قلاوون بترميم ما تهدم منها، ثم جاء تيمورلنك الأعرج سنة 803هـ/1400م، فهدم المدينة والقلعة، وقام المماليك بتحريرها وترميمها، ثم استولى عليها العثمانيون سنة 923هـ/1516م، وجاء إبراهيم باشا بن محمد علي باشا من مصر عام 1831 واستمرت خاضعة له حتى عام 1257هـ/1840م، وفيها أنشأ الثكنة كما ذكرنا، وجعل القلعة مقراً لجنوده. ومنذ عام 1950 تجري في القلعة ترميمات وتجديدات من قبل المديرية العامة للآثار، كما أجريت فيها حفريات أثرية للتعرف على تاريخ هذه القلعة قبل الإسلام. وأحدث اكتشاف في قلعة حلب، جدار من معبد حدد إله الأمطار والأنواء، وكان معبود جميع شعوب المنطقة، ويتألف الجدار من سبعة مشاهد تمثل الإله وكائنات أخرى خرافية بأسلوب فني متميّز. ولقد تبين أن الرابية كانت مقراً لمعابد حثيّة وآرامية، واكتشفت آثار تؤكد ذلك محفوظة في متحف حلب. وفي العصر الإغريقي أصبحت الرابية أكروبول المدينة، واستمرت كذلك حتى اقتحمها العرب المسلمون وعلى رأسهم خالد بن الوليد. واستقر الحكم العربي الإسلامي منذ ذلك الوقت في حلب وقلعتها المنيعة التي صدت هجوم الروم والمغول والتتار، وكان أول من استعملها سيف الدولة الحمداني ثم المرداسيون وبعدهم آل سنقر ثم رضوان بن تتش أصلح فيها، ولكن الأيوبيين هم بناتها كما هي اليوم.
إنّ سور قلعة حلب إهليلجي الشكل، تتخلله أبراج بعضها مربع الشكل وبعضها دائري، ويرتفع السور اثني عشر متراً وهو من الحجر الضخم، والسور والأبراج كلها تعود إلى العصور العربية، بدءاً من القرن الثاني عشر إلى السادس عشر الميلادي، وتؤكد ذلك كتابات منقوشة عليه مازالت حتى اليوم.
وسور القلعة مزدوج في أكثر أقسامه، ولقد خرّب في مناسبات كثيرة، ومازال في كثير من أجزائه أنقاضاً تنتظر الترميم. أما الأبراج فإن أبرزها هما برجا المدخل المرتفع وبرج المدخل السابق للجسر. وفي الجهة المقابلة إلى الجنوب برج ضخم ينهض على سفح جدار الخندق المكسو بالحجر، ولقد أنشأ هذا البرج الجميل الأمير المملوكي جكم، ثم جدده السلطان قانصوه الغوري سنة 916هـ/1508م، كما هو منقوش عليه.
ويصل الصاعد إلى هذا البرج عن طريق درج ممتد على سفح جدار الخندق ويستمر حتى أسوار القلعة، حيث ينتهي بباب سري كان يستعمله الملك الظاهر غازي للخروج من القلعة إلى قصر العدل، وبعد الباب السري قاعة حمام أمامها ممر رصفت أرضه بأحجار على أشكال هندسية، ويؤدي الممر إلى ساحة يتوسطها حوض ماء، ومازال على جدار الساحة من الشمال بقايا سلسبيل، ومن الجنوب بقايا إيوان كبير، وفي الشرق إيوان صغير، وتكسو الأرض زخرفة حجرية ملونة مازالت بقاياها واضحة.
ويقابل البرج الجنوبي الضخم، برج مماثل من جهة الشمال قام بتجديده وترميمه أيضاً السلطان المملوكي الأخير قانصوه الغوري.

 

السياحة الثقافية والتراثية